طوال سنوات دراستي في المدرسة، خاصة في الثانوية العامة وأول سنوات الجامعة، كنت أجد الأمر غريبا ومحبطا، الحاجة لدراسة كل هذه المواد التي أعلم بأنني سأنساها ولن أستخدمها أبدا بمجرد أن أتخرج وأبدأ دراستي في الجامعة، أنا كنت أريد أن أدرس الطب البشري، فلماذا يجب علي أن أدرس مادة الفيزياء؟ بل لم يكن ذلك كافيا، حيث كان يجب أن علي أن أدرس كل أجزاءها، وأدرسها جيدا وأتفوق في فهمها وحل مسائلها وحفظ قوانينها، لماذا؟
ليست لدي مشكلة شخصية مع مادة الفيزياء بالذات، ولا مع أي مادة أخرى، لكن اعتراضي كان دائما هو لماذا؟ وهو ينطبق أيضا على الطلبة الذين يريدون التخصص في الفيزياء لاحقا، لماذا كانوا يدرسون الأحياء لسنوات؟ لماذا كانوا مطالبين بمعرفة تفاصيل خطوات تكسر السكر لانتاج الطاقة في الخلية الحلية وكيف ستفيدهم معرفة ذلك في حياتهم العملية بعد ذلك؟
عندما كنا نسأل المدرسين وبعد ذلك الدكاترة في الجامعة عن سبب دراستنا للفيزياء، وكنا نقوم بذلك بطريقة لبقة كي لا نجرحهم بانتقاد التخصص الذي كرسوا حياتهم لتعلمينا إياه، لم نكن نحصل على إجابة مرضية، والإجابة كانت نفسها في كل مرة، وهي اعطائنا أمثلة معينة عن تطبيقات الفيزياء في الطب، مثل العلاقة بين نصف قطر الشريان والمقاومة الواقعة على الدم المار فيه وارتفاع ضغط الدم.
دعوني أخبركم بسر لن يخبركم به أحد من مدرسي الفيزياء: لن تستفيد أبدا من محاضرة الفيزياء التي عن الأنابيب والمياه في فهم العلاقة بين الشرايين وضغط الدم! هل حان الوقت إذا لحذف مادة الفيزياء من المنهج لمن يريد دراسة الطب؟
الإجابة من وجهة نظري هي لا، فهنالك فائدة مهمة جدا من دراسة الفيزياء، لكن أحدا لم يخبرنا بها من قبل، وهي تدريب العقل على التفكير بطريقة معينة.
العقل البشري يمتلك القدرة على القيام بمجموعة كبيرة المهارات، وحل أي مشكلة ما أو استيعاب أي مفهوم ما، يحتاج لتوظيف عدد من هذه المهارات، اعتمادا على طبيعة المشكلة.
الأمر أشبه بالتدريب لكرة القدم، فلاعب كرة القدم عليه أن يتقن لعب كرة القدم، لكن التدريب للعب كرة القدم لا يقتصر على اللعب صباحا ومساء، فهنالك تدريبات أخرى تكون موجهة لتنمية مهارات معينة، وقد تكون في تلك التدريبات حركات رياضية معينة لن يستخدمها اللاعب مثلا داخل الملعب، مثل تمارين الضغط أو المعدة، لكن قيامه بهذا التمرين يعطيه قدرات ومهارات يحتاجها للعب بصورة جيدة في الملعب بعد ذلك.
العقل البشري ليس مثل الصفحة البيضاء التي تأتي وتملأها بما تشاء من المعلومات، بل هو عبارة عن عدة أجزاء ديناميكية كل منها متخصص للقيام بأمر معين، فهنالك جانب خاص بالرياضيات، وهنالك جانب خاص باللغة، وهنالك جانب خاص بالمهارات العضلية، وفي الجانب الخاص بالمهارات العضلية مثلا هنالك جانب خاص بمهارات اليد مثل الخط والرسم، وهنالك جانب خاص بمهارات القدم مثل لعب كرة القدم.
فتمرين واحد بنمط واحد ونوع واحد قد يأتي بنتائج ممتازة في مهارة محددة، لكن عندما تريد أن تكون تتشرب أمرا ما، وقادرا على معرفته وتعلمه وتكوين فلسفتك الخاص وآرائك الخاصة بشأن كل شيء فيه، فإن عليك أن تحرص على أن تكون كافة جوانب عقلك على نفس الدرجة العالية من النمو قبل أن تتمكن من القيام بذلك، وتحقيق النمو في أجزاء مختلفة من العقل يأتي من دراسة تلك المواد المختلفة التي ينمي كل منها مهارة ما من مهارات العقل.
هذا هو السبب الذي من أجله يجب أن يدرس الطالب الفيزياء والرياضيات واللغة العربية قبل أن يقبل في كلية الطب، أو أي كلية أخرى.
منقول من مدونة أحمد الهاشمى